فصل: باب جامع البيوع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة

1348- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏ لا يبع بعضكم على بيع بعض هكذا روى يحيى بعض هذا الحديث لم يزد على قوله ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض‏)‏‏)‏ وتابعه بن بكير وبن القاسم وجماعة ورواه قوم عن مالك عن نافع عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلعة حتى يهبط بها إلى السوق‏)‏‏)‏ وممن رواه بهذه الزيادة بن وهب والقعنبي وعبد الله بن يوسف وسليمان بن برد وليست هذه الزيادة في هذا الحديث لغيرهم عن مالك والله أعلم وإنما هذا اللفظ في حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي بعد من هذا الباب إن شاء الله عز وجل ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض‏)‏‏)‏ بمعنى قوله عليه السلام ‏(‏‏(‏لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يسم على سومه‏)‏‏)‏ رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ومن حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة ومن حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة كلهم قال فيه ‏(‏‏(‏لا يسم على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه‏)‏‏)‏ وقد فسر مالك في ‏(‏‏(‏الموطأ‏)‏‏)‏ قوله ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله أعلم لا يبع بعضكم على بيع بعض أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب وما أشبه هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم فهذا الذي نهى عنه والله أعلم قال مالك ولا بأس بالسوم بالسلعة توقف للبيع فيسوم بها غير واحد قال ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بها أخذت بشبه الباطل من الثمن ودخل على الباعة في سلعهم المكروه ولم يزل الأمر عندنا على هذا وقال سفيان الثوري معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض‏)‏‏)‏ أن يقول عندي خير منه وقول أبي حنيفة وأصحابه في ذلك نحو قول مالك قالوا لا ينبغي أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا جنح البائع إلى بيعه‏.‏

وقال الشافعي معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض‏)‏‏)‏ أن يبتاع الرجل سلعة فيقبضها ولم يفترقا وهو مغتبط بها غير نادم عليها فيأتيه قبل الافتراق من يعرض عليه مثل سلعته أو خيرا منها بأقل من ذلك من الثمن فيفسخ بيع صاحبه لأن الخيار قبل التفرق فيكون هذا فسادا ومذهب الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا يسوم الرجل على سوم أخيه‏)‏‏)‏ نحو مذهب مالك ومذاهب الفقهاء في ذلك متقاربة متداخلة وكلهم يكرهون أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو يبيع على بيعه بعد الركون والرضا على نحو ما وصفنا من أقوالهم في ذلك والبيع عندهم مع ذلك صحيح لأن سوم المساوم لم يتم به عقد بيع وقد كان لكل واحد منهما ألا يتمه إن شاء وأهل الظاهر يفسخونه وقد روي عن مالك وبعض أصحابه فسخه أيضا ما لم يفت وفسخ النكاح ما لم يفت بالدخول وقد أنكر بن الماجشون ذلك أن يكون قاله مالك في البيع قال وإنما قال ذلك في نكاح الذي يخطب على خطبة أخيه وقد تقدم قول مالك وغيره فيمن خطب على خطبة أخيه بعد الركون إليه ونكح على ذلك في صدر كتاب النكاح والحمد لله كثيرا‏.‏

وأما دخول الذمي في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يسم أحدكم على سوم أخيه‏)‏‏)‏ فقد اختلف فيه فكان الأوزاعي يقول لا بأس بدخول المسلم على الذمي في سومه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خاطب المسلمين في أن لا يبع بعضهم على بيع بعض فقال لا يبع أحد على بيع أخيه يعني المسلم وقال الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم لا يجوز أن يبيع المسلم على بيع الذمي والحجة لهم أنه كما دخل الذمي في النهي عن النجش وعن ربح ما لم يضمن وغير ذلك مما الذمي فيه تبع المسلم فكذلك يدخل في هذا وقد يقال هذا طريق المسلمين ولا يمنع ذلك من سلوك أهل الذمة إياه وقد أجمع العلماء على كراهة سوم الذمي على سوم المسلم وعلى سوم الذمي إذا تحاكموا الينا فدل أنهم داخلون في ذلك والله أعلم‏.‏

1349- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر أما قوله ‏(‏‏(‏لا تلقوا الركبان للبيع‏)‏‏)‏ فقد روي هذا المعنى بألفاظ مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره فروى الأعرج عن أبي هريرة كما ترى ‏(‏‏(‏لا تلقوا الركبان للبيع‏)‏‏)‏ وروى بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا تلقوا الجلب‏)‏‏)‏ وروى أبو صالح وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تتلقى السلع حتى تدخل الأسواق وروى بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا تستقبلوا السوق ولا يتلق بعضكم لبعض‏)‏‏)‏ والمعنى في كل ذلك واحد وجملة قول مالك في ذلك أنه لا يجوز أن يشتري أحد من الجلب والسلع الهابطة إلى الأسواق شيئا حتى تصل السلعة إلى سوقها هذا إذا كان التلقي في أطراف المصر أو قريبا منه وقيل لمالك أرأيت إن كان ذلك على رأس ستة أميال فقال لا بأس بذلك قال والحيوان وغيره في ذلك سواء وروى بن وهب عن مالك أنه سئل عن الرجل يخرج في الأضحى إلى مثل الإصطبل وهو نحو من ميل يشتري ضحايا وهو موضع فيه الغنم والناس يخرجون إليهم يشترون منهم هناك فقال مالك لا يعجبني ذلك وقد نهي عن تلقي السلع فلا أرى أن يشترى شيء منها حتى يهبط بها إلى الأسواق قال مالك والضحايا أفضل ما احتيط فيه لأنها نسك يتقرب به إلى الله ‏(‏عز وجل‏)‏ فلا أرى ذلك وسئل عن الذي يتلقى السلعة فيشتريها وتوجد معه أترى أن تؤخذ منه فتباع للناس فقال مالك أرى أن ينهى عن ذلك فإن نهي عن ذلك ثم وجد قد عاد نكل وقد روى بن وهب عن مالك أنه كره تلقي السلع في مسيرة اليوم واليومين وتحصيل مذهب مالك في ذلك أنه لا يجوز تلقي السلع والركبان ومن تلقاهم فاشترى منهم سلعة شركة فيها أهل سوقها إن شاؤوا وكان فيها واحدا منهم وسواء كانت السلعة طعاما أو بزا وروى عيسى وسحنون وأصبغ عن بن القاسم أن السلعة إذا تلقاها متلق واشتراها قبل أن يهبط بها إلى سوقها فإنها تعرض على الذين يتجرون في السوق بها فيشتركون فيها بذلك الثمن لا زيادة إن شاؤوا فإن لم يكن لتلك السلعة سوق عرضت على الناس في المصر فيشتركون فيها إن أحبوا فإن نقصت عن ذلك الثمن لزمت المشتري المتلقي لها قال سحنون وقال لي غير بن القاسم يفسخ البيع وقال عيسى عن بن القاسم يؤدب متلقي السلع إذا كان معتادا لذ لك وروى سحنون عنه أيضا أنه يؤدب إلا أن يعذر بالجهالة وقال عيسى عن بن القاسم إن فاتت السلعة فلا شيء عليه وقد ذكرنا في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وفي كتاب ‏(‏‏(‏اختلاف أقوال مالك وأصحابه‏)‏‏)‏ ما اختلفوا فيه من هذا الباب وهذا المعنى وقال الليث بن سعد أكره تلقي السلع وشراءها في الطريق ولو على بابك حتى تقف السلعة في سوقها التي تباع فيها فإن تلقى أحد سلعة فاشتراها ثم علم به فإن كان بائعها لم يذهب ردت إليه حتى تباع في السوق وإن كان قد ذهب أخذت من مشتريها وبيعت في السوق ودفع إليه ثمنها قال فإن كان على بابه أو في طريقه فمرت به سلعة يريد صاحبها سوق تلك السلعة فلا بأس أن يشتريها إذا لم يقصد التلقي لأنه ليس بمتلق وإنما التلقي أن يعمد إلى ذلك قال أبو عمر يتفق معنى قول مالك والليث في أن النهي أريد به نفع أهل الأسواق لا رب السلع‏.‏

وقال الشافعي يكره تلقي السلعة من أهل البادية فمن تلقاها فقد أساء وصاحب السلعة بالخيار إذا قدم إلى السوق في إنفاد البيع أو رده وذلك أنهم يتلقونهم فيخبرونهم بانكسار سلعهم وكساد سوقهم وهم أهل غرة فيبيعونهم على ذلك وهذا ضرب من الخديعة حكى ذلك عن الشافعي الزعفراني والربيع والمزني وتفسير قول الشافعي عند أصحابه أن يخرج أهل السوق فيخدعون أهل القافلة ويشترون منهم شراء رخيصا فلهم الخيار لأنهم غروهم قال أبو عمر فمذهب الشافعي في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي السلع إنما أريد به نفع رب السلعة لا نفع أهل سوقها في الحاضرة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا كان التلقي في أرض لا يضر بأهلها فلا بأس به وإن كان يضر بأهلها فهو مكروه وقال الأوزاعي إذا كان الناس من ذلك شباعا فلا بأس به وإن كانوا محتاجين فلا يقربوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق ولم يجعل الأوزاعي القاعد على بابه تمر به السلع لم يقصد إليها فيشتريها متلقيا والمتلقي عنده التاجر القاصد إلى ذلك الخارج إليه وقال الحسن بن حي لا يجوز تلقي السلع ولا شراؤها في الطريق حتى يهبط بها إلى الأسواق وقالت طائفة من المتأخرين من أهل الفقه والحديث لا بأس بتلقي السلع في أول السوق ولا يجوز ذلك خارج السوق على ظاهر الحديث وقال بن خواز بنداد البيع في تلقي السلع صحيح عند الجميع وإنما الخلاف في أن المشتري لا يفوز بالسلعة ويشركه فيها أهل السوق ولا خيار للبائع أو أن البائع بالخيار إذا هبط بها إلى السوق قال أبو عمر قد ذكرنا عن بعض أصحاب مالك أن البيع فاسد يفسخ وما أظن أن بن خواز بنداد وافق على ذلك من قوله ولم يره خلافا لمخالفة الجمهور وفي هذا الباب حديث مسند صحيح حجة لمن ذهب إليه وبالله التوفيق‏.‏

وحدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثني عبد الله بن روح قال حدثني يزيد بن هارون قال حدثني هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏‏(‏لا تلقوا الجلب فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق‏)‏‏)‏‏.‏

وحدثني سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو أسامة عن هشام بن حسان عن بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أبو توبة الربيع بن نافع قال حدثني عبيد الله بن عمرو الرقي عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجلب فإن تلقاه متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يبع أحدكم على بيع بعض فقد مضى القول فيه في أول هذا الباب في حديث بن عمر‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏ولا تناجشوا‏)‏‏)‏ في حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة على ما ذكرنا في هذا الباب ف‏.‏

1350- قال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش قال مالك والنجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها وليس في نفسك اشتراؤها فيقتدي بك غيرك قال أبو عمر تفسير العلماء لمعنى النجش المنهي عنه متقارب المعنى وإن اختلفت ألفاظهم فيه بل المعنى فيه سواء عندهم قال الشافعي بعد أن ذكر الحديث في النهي عن النجش قال والنجش خديعة وليس من أخلاق أهل الدين وهو أن يحضر السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السوام فيعطوا بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يعلموا سومه وهو عاص لله عز وجل بارتكابه ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وعقد الشراء نافذ لأنه غير النجش‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يحل النجش وفسروه بنحو ما فسره مالك والشافعي وتفسير النجش عنهم في تحصيل مذاهبهم أن يدس الرجل إلى الرجل ليعطي في سلعته التي عرضها للبيع عطاء هو أكثر من ثمنها وهو لا حاجة به إلى شرائها ولكن ليغتر به من أراد شراءها فيرغب فيها ويغتر بعطائه فيزيد في ثمنها لذلك أو يفعل ذلك البائع نفسه ليغر الناس بذلك وهم لا يعرفون أنه ربها وأجمعوا أن فاعل ذلك عاص بفعله واختلفوا في البيع على هذا إذا صح فقال مالك لا يجوز النجش في البيع فمن اشترى سلعة بنجوشه فهو بالخيار إذا علم وهو عيب من العيوب قال أبو عمر الحجة في هذا لمالك ومن تابعه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التصرية والتحصيل في الشاة والبقرة والناقة ثم جعل المشتري بالخيار إذا علم بأنها كانت محفلة ولم يقض بفساد البيع ومعلوم أن التصرية غش وخديعة فكذلك النجش يصح فيه البيع ويكون المبتاع بالخيار من أجل ذلك قياسا ونظرا والله أعلم‏.‏

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما بيع النجش مكروه والبيع لازم ولا خيار للمبتاع في ذلك لأنه ليس بعيب في نفس المبيع وإنما هي خديعة في الثمن وقد كان على المشتري أن يتحفظ ويحضر من يميز إن لم يكن يميز وقالت طائفة من أهل الحديث وأهل الظاهر البيع في النجش مفسوخ مردود على بائعه لأنه طابق النهي ففسد وقال بن حبيب من فعل ذلك جاهلا أو مختارا فسد البيع إن أدرك قبل أن يفوت إلا أن يحب المشتري التمسك بالسلعة بذلك الثمن فإن فاتت في يده كانت عليه بالقيمة هذا إذا كان البائع هو الناجش ولو كان بأمره وإذنه أو بسببه وإن لم يكن شيء من ذلك وكان أجنبيا لا يعرف فلا شيء على البائع‏.‏

وأما البيع فهو صحيح‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الزناد في هذا الباب عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏ولا يبع حاضر لباد‏)‏‏)‏ فإن العلماء اختلفوا في ذلك فكان مالك يقول تفسير ذلك أهل البادية وأهل القرى‏.‏

وأما أهل المدائن من أهل الريف فإنه ليس بالبيع لهم بأس ممن يرى أنه يعرف السوم إلا أن من كان منهم يشبه أهل البادية فإني لا أحب أن يبيع لهم حاضر وقال في البدوي يقدم المدينة فيسأل الحاضر عن السعر أكره أن يخبره قال ولا بأس أن يشتري له إنما يكره أن يبيع له‏.‏

وأما ما أن يشترط له فلا بأس هذه رواية بن القاسم عنه قال بن القاسم ثم قال بعد ذلك ولا يبع مصري لمدني ولا مدني لمصري ولكن يشير عليه وقال بن وهب عن مالك لا أرى أن يبيع الحاضر للبادي ولا لأهل القرى‏.‏

وحدثني خلف بن القاسم قال حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثني المفضل بن محمد الجندي قال حدثني علي بن زياد قال حدثني أبو قرة موسى بن طارق قال قلت لمالك قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا يبع حاضر لباد‏)‏‏)‏ ما تفسيره قال لا يبع أهل القرى لأهل البادية سلعهم قلت فإن بعت بالسلعة إلى أخ له من أهل القرى ولم يقدم مع سلعته قال لا ينبغي له قلت ومن أهل البادية قال أهل العمود قلت له القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها يقيمون فيها تكون قرى صغارا في نواحي المدينة العظيمة فيقدم بعض أهل تلك القرى الصغار إلى أهل المدينة بالسلعة فيبيعها لهم أهل المدينة قال نعم إنما معنى الحديث أهل العمود وروى أصبغ عن بن القاسم في بيع الحاضر للبادي أنه يفسخ وروى عيسى عن بن القاسم مثله قال وإن فات فلا شيء عليه وروى سحنون عن بن القاسم أنه يمضي البيع قال سحنون وقال لي غير بن القاسم أنه يرد البيع وروى زونان عن بن وهب أنه يرد عالما كان بالنهي عن ذلك أو جاهلا وروى عيسى وسحنون عن بن القاسم أنه يؤدب الحاضر إذا باع للبادي زاد عيسى في روايته إن كان معتادا لذلك قال أبو عمر لم يختلف قول مالك في كراهية بيع الحاضر للبادي واختلف قوله في شرائه له فمرة قال لا يشتري له ولا يشير عليه ولا يبيعه وبه قال بن حبيب قال الشراء للبادي مثل البيع قال وكذلك قوله ‏(‏‏(‏لا يبع بعضكم على بيع بعض‏)‏‏)‏ أي لا يشتري على شراء أخيه ولا يبع على بيع أخيه قال ولا يجوز للحاضر أن يشتري للبدوي ولا يبيع له ولا أن يبعث الحضري للبدوي متاعا فيبيعه له ولا يشيره في البيع إن قدم عليه وقال الأوزاعي لا يبع حاضر لباد ولكن لا بأس أن يخبره بالسعر‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا بأس أن يبيع الحاضر للبادي ومن حجتهم أن الحديث في النهي عن ذلك قد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏الدين النصيحة لكل مسلم‏)‏‏)‏ وحديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏للمسلم على المسلمة سبع‏)‏‏)‏ فذكر منها أن ينصح له‏.‏

وقال الشافعي لا يبع حاضر لباد فإن باع حاضر لباد فهو عاص إذا كان عالما بالنهي ويجوز البيع لقوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر الدين النصيحة عام ‏(‏‏(‏ولا يبع حاضر لباد‏)‏‏)‏ خاص والخاص يقضي على العام لأن الخصوص استثناء كما قال ‏(‏‏(‏الدين النصيحة حق على المسلم أن ينصح اخاه إلا أنه لا يبع حاضر لباد‏)‏‏)‏ لم يختلفوا أنه يستعمل على هذا الحديثان يستعمل العام منهما في ما عدا المخصوص ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد لم يختلفوا أنه أريد به نفع أهل السوق ونحوها من الحاضرة وعلى هذا المعنى عند مالك وأصحابه نهيه صلى الله عليه وسلم عن تلقي السلع‏.‏

وأما الشافعي فجعل لكل واحد منهما معنى على ما قدمنا من قوله في معنى النهي عن تلقي الجلب أنه في صاحب السلعة الجالب لها إلى المصر إلا يخدع قبل أن يصل إلى السوق أخبرنا عبد الله قال حدثني محمد قال حدثني أبو داود قال حدثني النفيلي قال حدثني زهير قال حدثني أبو الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا يبع حاضر لباد ذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض‏)‏‏)‏ وقد أوضحنا هذا المعنى بالآثار المرفوعة وعن الصحابة والتابعين في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وقد روي عن مجاهد في ذلك ما حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن عمر قال حدثني علي بن حرب قال حدثني سفيان عن بن أبي نجيح عن مجاهد قال إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبيع حاضر لباد في زمانه أراد أن يصيب الناس بعضهم من بعض فأما اليوم فليس به بأس قال بن أبي نجيح وقال عطاء لا يصلح ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه‏.‏

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني علي بن حرب قال حدثني سفيان بن عيينة عن مسلم الخياط سمع بن عمر ينهي أن يبيع حاضر لباد قال مسلم وقال أبو هريرة لا يبيعن حاضر لباد‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في هذا الباب ‏(‏‏(‏لا تصروا الإبل والغنم‏)‏‏)‏ فهو من صريت اللبن في الضرع والماء في الحوض فالشاة مصراة وكذلك الناقة وهي المحفلة سميت مصراة لأن اللبن صري في ضرعها أياما حتى اجتمع وكثر ومعنى صرى حبس وجمع ولم يحلب حتى عظم ضرعها ليظن المشتري إن ذلك لبن ليلة ونحوها فيغتر بما يرى من عظم ضرعها وقيل للمصراة محفلة لأن اللبن اجتمع في ضرعها فصارت حافلة والحافل الكثيرة اللبن العظيمة الضرع ومنه قيل مجلس حافل إذا كثر فيه القوم أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني أبو يحيى بن أبي مسرة قال حدثني المقرئ قال حدثني المسعودي عن جابر عن أبي الضحى عن مسروق قال قال عبد الله بن مسعود واشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏‏(‏بيع المحفلات خلابة ولا تحل خلابة المسلم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر من روى لا تصروا الإبل ولا الغنم فقد اخطأ ولو كانت تصروا لكانت مصرورة وهذا لا يجوز عنده‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر‏)‏‏)‏ فقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث فمنهم من قال به واستعمله ومنهم من رده ولم يستعمله وممن قال به مالك بن أنس وهو المشهور عنه وهو تحصيل مذهبه وبه قال الشافعي وأصحابه والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل الحديث ذكر أسد وسحنون عن بن القاسم أنهما قالا له أيأخذ مالك بهذا الحديث فقال قلت لمالك أتأخذ بهذا الحديث قال نعم قال مالك أو في الأخذ بهذا الحديث رأي وقال بن القاسم وأنا آخذ به لأن مالكا قال لي أرى لأهل البلدان إذا نزل بهم هذا أن يعطوا الصاع من عيشهم قال وأهل مصر عيشهم الحنطة قال أبو عمر رد أبو حنيفة وأصحابه هذا الحديث وادعوا أنه منسوخ وأنه كان قبل تحريم الربا وأتوا بأشياء لا يصح لها معنى غير مجرد الدعوى وقد روى أشهب عن مالك نحو ذلك ذكر القعنبي من سماع أشهب عن مالك أنه سئل عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏من ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر‏)‏‏)‏ وقال سمعت ذلك وليس بالثابت ولا الموطإ عليه وإن لم يكن ذلك أنه له اللبن بما أعلف وضمن قيل له نراك تضعف الحديث قال كل شيء يوضع موضعه وليس بالموطأ ولا الثابت وقد سمعته قال أبو عمر هذه رواية الله أعلم بصحتها عن مالك وما رواها عنه إلا ثقة ولكنه عند اختلاف من رواية الحديث عند أهل العلم بالحديث صحيح ثابت وهو أصل في النهي عن الغش والدلسة بالعيوب وأصل أيضا في الرد بالعيب لمن وجد فيما يشتريه من السلع وفيه دليل على أن بيع المعيب بيع يقع صحيحا بدليل التخيير فيه لأنه إن رضي المبتاع بالعيب جاز ذلك ولو كان بيع المعيب فاسدا أو حراما لم يصح الرضا به وهذا أصل مجتمع عليه‏.‏

وأما سائر ما في حديث المصراة فمختلف فيه أما أهل الحجاز منهم مالك في المشهور من مذهبه والشافعي وأصحابهما والليث وبن أبي ليلى وأكثر أهل الحديث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم فقد استعملوه على وجهه وعمومه وظاهره وقالوا إذا بان له أي مشتري المصراة - إذا بان أنها مصراة محفلة ردها في الثلاث أو عند انقضائها ورد معها صاعا من تمر اتباعا للحديث حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثني إسماعيل بن إسحاق قال حدثني إبراهيم بن حمزة قال حدثني عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏إيما رجل اشترى محفلة فله أن يمسكها ثلاثا فإن أحبها أمسكها وإن أسخطها ردها وصاعا من تمر‏)‏‏)‏ هكذا رواه محمد بن سيرين ومحمد بن زياد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل بيع المصراة بالخيار ثلاثة أيام وقد قدمنا في باب الخيار قول من جعل الخيار ثلاثة أيام في كل شيء ولم يره أكثر من ثلاثة لهذا الخبر قال مالك من اشترى مصراة فاحتلبها ثلاثا فإن رضيها أمسكها وإن سخطها لاختلاف لبنها ردها ورد معها صاعا من قوت ذلك البلد تمرا كان أو برا أو غير ذلك وبه قال الطبري وقال عيسى بن دينار إن علم مشتري المصراة أنها مصراة بإقرار البائع فردها قبل أن يحلبها لم يكن عليه غرم لأنه لم يحلب اللبن الذي من أجله يلزم غرم الصاع قال أبو عمر هذا ما لا خلاف فيه فقف عليه قال عيسى ولو حلبها مرة ثم حلبها ثانية فنقص لبنها ردها ورد معها صاعا من تمر لحلبته الأولى ولو جاء باللبن بعينه كما حلبه لم يقبل منه ولزمه غرم الصاع لأن الصاع قد وجب عليه فليس له أن يعطيه فيه لبنا لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى‏.‏

وقال الشافعي في المصراة يردها ويرد معها صاعا من تمر لا يرد غير التمر إن كان موجودا وهو قول بن أبي ليلى والليث بن سعد وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود ويحيى على أصولهم أن التمر إذا عدم وجب رد قيمته لا قيمة اللبن وقد روي عن بن أبي ليلى وأبي يوسف أنهما قالا لا يعطي مع الشاة المصراة إذا ردها قيمة اللبن ومن حجة من قال إنه لا يرد إلا التمر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال حدثني بن حمدان قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني يزيد قال حدثني هشام عن محمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏قال‏)‏ ‏(‏ ‏(‏من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من تمر لا سمراء‏)‏‏)‏‏.‏

وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني موسى بن إسماعيل قال حدثني حماد عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد عن بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء ردها وصاعا من طعام لا سمراء‏)‏‏)‏ وقال بعضهم ‏(‏‏(‏وصاعا من تمر لا سمراء‏)‏‏)‏ والسمراء عندهم البر يقول تمر لا بر قال أبو عمر قوله في هذا الحديث ‏(‏‏(‏فهو بالخيار ثلاثة أيام‏)‏‏)‏ دليل على أن مبتاع المصراة إذا حلبها مرة وثانية بعد لبن التصرية ليتبين أنها كانت مصراة لم يكن في حلبته الثالثة دليل على رضاه به إذا قام طالبا لردها بما قام له من تصريتها فلو حلبها بعد الثالثة كان منه رضى بها ولم يكن له ردها وقد قيل إن الحلبة الثالثة رضا منه بها وكل ذلك لأصحاب مالك والاصح الأول قال أبو عمر المعنى -والله أعلم- في هذا الحديث أن المصراة لما كان لبنها مغيبا لا يوقف على مبلغه لاختلاط لبن التصرية بغيره مما يحدث في ملك المشتري من يومه وجهل مقداره وأمكن التداعي في قيمة قطع النبي صلى الله عليه وسلم الخصومة في ذلك بما حده فيه من الصاع المذكور كما فعل صلى الله عليه وسلم في دية الجنين قطع فيه بالغرة حسما لتداعي الموت فيه والحياة لأن الجنين لما أمكن أن يكون حيا في حين ضرب بطن أمه فتكون فيه الدية كاملة وأمكن أن يكون ميتا فلا يكون فيه شيء قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم التنازع فيه والخصام بأن جعل فيه غرة عبد أو أمة لأنه لا يوقف على صحته في بطن أمه إذا رمته ميتا وفي اتفاق العلماء على القول بحديث الجنين في دية الجنين دليل على لزوم القول بحديث المصراة اتباعا للسنة وتسليما لها وبالله التوفيق وقالت طائفة منهم أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز القول بحديث المصراة وادعوا أنه منسوخ بالحديث الوارد في أن الخراج بالضمان والغلة بالضمان قالوا ومعلوم أن اللبن المحلوب في المرة الأولى - وهو لبن التصرية وقد خالطه جزء من اللبن الحادث في ملك المبتاع وكذلك المرة الثانية وكذلك لو حلبها ثالثة مثل ذلك غلة طارئة في ملك المشتري فكيف يرد له شيئا قالوا والأصول المجتمع عليها في المستهلكات أنها لا تضمن إلا بالمثل أو بالقيمة من الذهب والورق فكيف يجوز القول في ضمان لبن التصرية الذي حلبه المشتري في أول حلبة وهو ملك البائع في حين البيع لم يضمن بصاع من تمر فات عند المشتري أو لم يفت وهو مما قد وقعت عليه الصفقة كما وقعت على المصراة نفسها وقالوا وهذا كله يبين أن الحديث في المصراة منسوخ كما نسخت العقوبات في غرامة مثلي الشيء وذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حريسة الجبل التي لا قطع فيها غرامة مثليها وجلدات نكال نسخة قول الله عز وجل ‏(‏فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏)‏ ‏[‏البقرة 194‏]‏‏.‏

وكذلك قوله وصاعا من تمر منسوخ أيضا بتحريم الربا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الطعام بالطعام ربا إلا هاء وهاء وجعل فيمن استهلك طعاما طعاما مثله قال فإن فات فقيمته ذهبا أو ورقا قالوا وهذا كله يدل على أن حديث المصراة منسوخ قال أبو عمر حديث المصراة حديث صحيح لا يدفعه أحد من أهل العلم بالحديث ومعناه صحيح في أصول السنة وذلك أن لبن التصرية لما اختلط باللبن الطارئ في ملك المشتري لم يتهيأ تقدير ما للبائع من ذلك فيكون على المشتري قيمته لأن تقويم ما لا يعرف غير ممكن ولما كان لكل واحد منهما شيء من اللبن وكانا جميعا عاجزين عن تحديده حكم النبي صلى الله عليه وسلم للبائع بصاع من تمر لأن ذلك كان الغالب في قوتهم يومئذ وفي الأصول ما يشهد لذلك مثل حكمه في الجنين وفي الأصابع والأسنان جعل الصغير منها كالكبير وكذلك الموضحة حكم في صغيرها وكبيرها بحكم واحد لأنه لا يوقف على صحة تفضيل بعضها على بعض في الجمال والمنفعة وروى الشافعي ومطرف بن عبد الله المزني وعبد الأعلى بن حماد المزني وغيرهم قالوا حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رجلا اشترى عبدا فاستغله ثم ظهر منه على عيب فخاصم فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى له برده فقال البائع يا رسول الله ‏!‏ إنه قد أخذ خراجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏الخراج بالضمان هذا لفظ الشافعي وقال المزني فقال الرجل إنه قد استغله يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏الغلة بالضمان‏)‏‏)‏‏.‏

وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن بن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف بن إيماء عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏الخراج بالضمان‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر لم يختلف العلماء أن المصراة إذا ردها مشتريها بعيب التصرية أو بعيب غير التصرية لم يرد اللبن الحادث في ملكه لانه غلة طرأت في ملكه وكان ضامنا لأصلها ولما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبن التصرية التي وقعت عليه الصفقة مع الشاة أو الناقة صاعا من تمر علم أن ذلك عبادة ليس بقيمة ولما كان لبن الشاة يختلف وكذلك لبن البقرة والنافة ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبن المصراة كيف كانت إلا الصاع المذكور علم أن ذلك عبادة لما وصفنا من قطع شعب الخصومة أو كما شاء الله وإذا كان ذلك كذلك فينبغي ألا يجب في لبن شاة غرة أو بقرات غرة أو نوق غرة إلا الصاع عبادة وتسليما فيكون ذلك خارجا عن سائر البيوع والله أعلم ويشهد لما وصفنا قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏لا تصروا الإبل ولا الغنم فمن اشترى مصراة - يعني من الإبل والغنم ورواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة من اشترى غنما مصراة ورواية من روى شاة مصراة ذكره البخاري وأبو داود فهو بالخيار ثلاثا فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر‏)‏‏)‏ فلم يجعل في الغنم المصراة إلا ما جعل في الشاة المصراة ولم يخص المصراة من الغنم ولا البقر ولا الإبل مع علمه بأن ذلك يختلف ويتباين وبالله التوفيق‏.‏

باب جامع البيوع

1315- مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إذا بايعت فقل لا خلابة‏)‏‏)‏‏.‏

قال فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة قال أبو عمر يقال إن الرجل المذكور في هذا الحديث هو منقذ بن عمرو الأنصاري المازني جد واسع بن حبان وذلك محفوظ في حديث بن عيينة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن بن عمر أن منقذا سفع في رأسه مأمومة في الجاهلية فخبلت لسانة فكان يخدع في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏بع وقل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا من بيعك‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو عمر فسمعته يقول إذا بايع لا خلابة لا خلابة وعن بن إسحاق في حديث منقذ هذا إسناد آخر رواه عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان أن جده منقذا كان قد أتى عليه مائة وثلاثون سنة فكان إذا باع غبن فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏(‏‏(‏إذا بعت فقل لا خلابة فأنت بالخيار‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا في التمهيد الإسنادين عن بن إسحاق في هذا الحديث وقد قيل إن حبان بن منقذ هو الذي كان يخدع في البيوع وفيه جاء الحديث والأول أصح وأثبت فيه أنه منقذ أبوه إن شاء الله تعالى واختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال منهم قائلون هو خصوص في ذلك الرجل وحده وجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار في البيوع ثلاثة أيام في كل سلعة اشتراها شرط الخيار أو لم يشترطه لما كان فيه من الحرص على الشراء والبيع مع ضعف كان فيه يقولون في عقله ولسانه وكان يخدع كثيرا فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثا فيما باع أو ابتاع فإن رأى أنه خدع كان له الرد وإن لم يجد عيبا إلا الغبن وحده خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقيل إنما جعل له أن يشترط لنفسه الخيار ثلاثا مع قوله لا خلابة لا خلابة كأنه يقول لمن بايعه إذا بان لي في الثلاثة الأيام أني خدعت فلي الرد إن شئت أو الإمساك وإن لم أجد عيبا كسائر مشترطي الخيار وعلى هذا القول يكون هذا الحديث مستعملا معناه في كل من اشترى وباع إذا اشترط الخيار ثلاثا وظهر إليه فيها أنه غبن وخدع وقد مضى ما للعلماء في اشتراط الخيار ومدته فيما مضى من كتابنا فلا وجه لإعادته واتفق أهل العلم - فيما علمت - أن الوكيل والمأمون ببيع شيء أو شرائه إذا باع أو اشترى بما لا يتغابن الناس في مثله أن فعله ذلك باطل مردود وكذلك فعل الوصي في مال يتيمه إذا فعل في البيع له أو الشراء ما لا يتغابن الناس بمثله لأن ذلك إفساد لمال غيره واستهلاك كما لو وهب مال غيره أو تصدق به بغير إذنه وكان أبو بكر الأبهري وأصحابه يذهبون إلى أن ما لا يتغابن الناس بمثله هو الثلث فما فوقه من ثمن السلعة أو قيمتها وما كان دون ذلك لم يرد فيه البيع إذا لم يقصد إليه ويمضى فيه اجتهاد الوصي والوكيل ومن جرى مجراهما‏.‏

وأما من لم يشترط في بيعه وشرائه أنه إن غبن غبنا بينا فيما باع أو ابتاع فهو بالخيار ثلاثا وهو مالك لنفسه جائز الأمر في ماله فقال بن القاسم في سماع عيسى منه في كتاب الرهون ‏(‏‏(‏من المستخرجة‏)‏‏)‏ باب سماع بن القاسم عن مالك قال مالك ولو باع رجل من غير أهل السفه جارية بخمسين دينارا قيمتها ألف دينار أو باعها بألف دينار وقيمتها خمسون دينارا جاز ذلك له قال أبو عمر لا أعلم خلافا في بيع المالك لنفسه الجائز الأمر في ماله ما لم يكن مستسئلا مستنصحا للذي عامله أنه حلال له أن يبيع بيعا بأكثر ما يساوي أضعافا إذا لم يدلس له بعيب إلا أن يبيع منه أو يشتري عينا من السلع قد جهلها مبتاعها أو باعها منه على أنها غير تلك العين كرجل باع قصديرا أو اشتراه على أنه فضة أو رخاما أو نحوه على أنه ياقوت أو ما أشبهة من نحو ذلك فإن هذا لا يحل ولا يجوز عند أهل العلم وللمشتري ذلك رده ولبائعه الرجوع فيه إذا باع لؤلؤا على أنه عظم أو فضة على أنه قصدير أو نحو ذلك‏.‏

وأما أثمان السلع في الرخص والغلاء وارتفاع الأسعار وانخفاضها فجائز التغابن في ذلك كله إذا كان كل واحد من المتبايعين مالكا لأمره وكان ذلك عن تراض منهما قال الله تعالى ‏(‏لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم‏)‏ ‏[‏النساء 29‏]‏‏.‏

وكل بيع كان عن تراض من المتبايعين لم ينه الله عز وجل عنه ولا رسوله ولا اتفق العلماء عليه فجائز وظاهر هذه الآية وظاهر قوله تعالى ‏(‏وأحل الله البيع وحرم الربو‏)‏ ‏[‏البقرة 275‏]‏‏.‏

ودليل ذلك من السنة نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع حاضر لباد وقوله ‏(‏‏(‏دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض‏)‏‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الفرس الذي جعله في سبيل الله ثم وجده يباع في السوق ‏(‏‏(‏لا يشتره وإن أعطاكه بدرهم‏)‏‏)‏ وقال في الأمة إذا زنت في الثالثة أو في الرابعة ‏(‏‏(‏بيعوها ولو بضفير‏)‏‏)‏ - يعني - حبل الشعر ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن المقاسمة إذا وقعت على المرضاة بغير تقويم فلا خيار في الغبن لها كثر أو قل وكذلك المعاوضة والبيع‏.‏

وأما الغبن والخلابة فحرام وكذلك خديعة المستسئل المستنصح حرام وهو في معنى حديث بن عمر في قصة منقذ وقوله ‏(‏‏(‏لا خلابة‏)‏‏)‏ كأن يقول انصح لي ولا تخدعني فإن فعلت فأنا بالخيار إذا بان ذلك لي وقد احتج بحديث بن عمر هذا من لم ير الحجر على السفيه المتلف لماله وسيأتي القول في ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله عز وجل وروى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أن رجلا كان في عقدته ضعف وكان يبايع وأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله احجر عليه فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فنهاه فقال يا رسول الله ‏!‏ إني لا أصبر على البيع فقال ‏(‏ ‏(‏إذا بايعت فقل لا خلابة‏)‏‏)‏‏.‏

1352- مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إذا جئت أرضا يوفون المكيال والميزان فأطل المقام بها وإذا جئت أرضا ينقصون المكيال والميزان فأقلل المقام بها قال أبو عمر هذا يدل على أنه لا ينبغي المقام بأرض يظهر منها المنكر ظهورا لا يطاق تغييره وأن المقام بالموضع الذي يظهر فيه الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأغلب محمود مرغوب فيه إذا وجد‏.‏ وأما بخس المكيال والميزان فمن الحرام البين والمنكر قال الله عز وجل ‏(‏ولا تبخسوا الناس أشياءهم‏)‏ ‏[‏الأعراف 58‏]‏‏.‏ وقال ‏(‏ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‏)‏ المطففين‏.‏

1- 3 قال قتادة في تأويل هذه الآية بن آدم ‏!‏ آوف كما تحب أن يوفى لك واعدل كما تحب أن يعدل عليك وقال بن عباس يا معشر الموالى ‏!‏ إنكم قد وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم هذا المكيال وهذا الميزان ومر بن عمر برجل يكيل كيلا يعتدي فيه فقال له ويلك ‏!‏ ما هذا فقال أمر الله تعالى بالوفاء فقال بن عمر ونهى عن العدوان وقال الفضيل بن عياض بخس المكيال والميزان سواد الوجه غدا في القيامة حدثني عبد الوارث بن سفيان وأحمد بن قاسم قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثني أبو نعيم قال حدثني سفيان عن عبد الله بن حبان بن خثعم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فقال ‏(‏‏(‏يا معشر التجار ‏!‏ إن التجار يحشرون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق‏)‏‏)‏‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن الجهم السمري قال حدثني عبد الوهاب قال أخبرنا هشام الدستوائي عن أبي راشد أنه سمع عبد الرحمن بن سهل يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏(‏‏(‏التجار هم الفجار‏)‏‏)‏‏.‏ قالوا يا رسول الله ‏!‏ أليس قد أحل الله البيع وحرم الربا قال ‏(‏‏(‏بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحزنون ويكذبون‏)‏‏)‏‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني مطلب بن شعيب قال حدثني عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثني يونس عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة‏)‏‏)‏ وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏اليمين الكاذبة ممحقة للبركة منفقة للسلعة‏)‏‏)‏ رواه عن العلاء جماعة من أئمة أهل الحديث حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني موسى بن إسماعيل قال حدثني أبان بن يزيد قال حدثني عاصم عن أبي وائل عن قيس عن أبي غرزة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏يا معشر التجار ‏!‏ إن الشيطان والإثم يحضران بيعكم فشوبوه بالصدقة‏)‏‏)‏‏.‏

حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني موسى بن إسماعيل قال حدثني عبد الواحد بن زياد قال حدثني الأعمش عن شقيق عن قيس عن أبي غرزة قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏(‏‏(‏يا معشر التجار ‏!‏ إن البيع يحضره الحلف واللغو فشوبوه بالصدقة‏)‏‏)‏‏.‏

1353- مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع محمد بن المنكدر يقول أحب الله عبدا سمحا إن باع سمحا إن ابتاع سمحا إن قضى سمحا إن اقتضى وهذا اللفظ قد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صالح قد ذكد ذكرناه في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ وليس فيه ما يحتاج إلى تفسير وحديث حذيفة من هذا المعنى حديث حسن جدا صحيح ثابت روي من وجوه منها ما رواه منصور بن المعتمر عن ربيع بن خداش عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏‏(‏وتلقت الملائكة لروح رجل ممن كان قبلكم فقالوا له هل عملت من الخير شيئا فقال ما أذكر أني عملت من الخير شيئا قط فقيل له اذكر فقال ما أذكر إلا أني كنت رجلا أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن المعسر فقال الله عز وجل ‏(‏‏(‏تجاوزوا عنه فإنه أحق بالتجاوز‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك في الرجل يشتري الإبل أو الغنم أو البر أو الرقيق أو شيئا من العروض جزافا إنه لا يكون الجزاف في شيء مما يعد عدا قال أبو عمر إنما كره الجزاف في المعدودات لانه عنده من الغرر المقصود إليه كالعبيد والدواب وسائر الحيوان وعلى هذا جمهور العلماء في العبيد والدواب والأنعام والثياب وما أشبه ذلك أنه لا يجوز في شيء منه الجزاف لأنه غرر بين إذا ترك عده وقد أمكن تأوله وتقليبه والنظر إليه فإن لم يكن ذلك فيه كان من الملامسة وكان أشد فسادا وقد قالت طائفة من أهل العلم ما لا يجوز فيه السلم لم يجز فيه الجزاف لأنه غرر بين وقد اتفق مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابهم على جواز السلم في الحيوان والبيض عدا وصغير ذلك وكبيره سواء وروى الحسن بن زياد عن زفر قال لا يجوز السلم في الجوز والبيض وقال الثوري الرمان والبيض لا يجوز السلم فيهما لأنه لا يضبط واحد منهما نصف فإن ضبط بكيل أو وزن جاز فيه السلم‏.‏ وقال الشافعي لا يجوز السلم في الجوز ولا في البيض ولا في الرمان الا أن يضبط بكيل أو وزن‏.‏ وقال مالك يجوز السلم في السمك الطري إذا سمى جنسا من الحيتان ويشترط الطول أو يكون وزنا‏.‏

وقال الشافعي يجوز السلم في السمك وزنا ويصف صغيرا أو كبيرا واختلف عن أبي حنيفة فالأشهر عنه أنه يجوز السلم في السمك الطري والمالح وزنا معلوما وروى أصحاب ‏(‏‏(‏ الإملاء‏)‏‏)‏ عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا خير في السلم في السمك الطري ولا المالح وقال أبو يوسف يجوز في المالح والصغار التي تكال واختلف عن أصحاب مالك في بيع العدد والجزاف صفقة واحدة فروى أصبغ عن بن القاسم أنه لا يباع مع الجزاف شيء من الأشياء لا كيل ولا وزن ولا عرض ولا غيره وقال أصبغ وأجازه لنا أشهب وذكر بن حبيب أن بن القاسم كان يجيز ذلك قال بن حبيب لا يجوز أن يباع مع الجزاف عدد ولا غيره كما لا يجوز أن يباع مع الجزاف شيء من الكيل والوزن قال أبو عمر سائر العلماء يجيزون بيع كل ما ينظر إليه المتبايعان ويتفقون على مبلغه جزافا كان أو عددا ولا يضر الجزاف الجائز بيعه عندهم أن ينضاف إليه ما يجوز بيعه أيضا من غيره وبالله التوفيق قال مالك في الرجل يعطي الرجل السلعة يبيعها له وقد قومها صاحبها قيمة فقال إن بعتها بهذا الثمن الذي أمرتك به فلك دينار أو شيء يسميه له يتراضيان عليه وإن لم تبعها فليس لك شيء إنه لا بأس بذلك إذا سمى ثمنا يبيعها به وسمى أجرا معلوما إذا باع أخذه وإن لم يبع فلا شيء له قال مالك ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل إن قدرت على غلامي الآبق أو جئت بجملي الشارد فلك كذا فهذا من باب الجعل وليس من باب الإجارة ولو كان من باب الإجارة لم يصلح قال أبو عمر الأصل في جواز الجعل قول الله عز وجل ‏(‏ولمن جاء به حمل بعير‏)‏ ‏[‏يوسف 72‏]‏‏.‏

وما أجمع عليه الجمهور من جواز الجعل في الإتيان بالآباق والضوال وكذلك إذا قال له إن بعت لي سلعتي هذه بكذا فلك كذا أو إلا فلا شيء لك لأن عمله ونصبه وتعبه في طلب ذلك الثمن في سلعة كنصبه في طلب الآبق والضالة فإن وجده حصل على ما جعل له وإلا فلا قال مالك فأما الرجل يعطى السلعة فيقال له بعها ولك كذا وكذا في كل دينار لشيء يسميه فإن ذلك لا يصلح لانه كلما نقص دينار من ثمن السلعة نقص من حقه الذي سمى له فهذا غرر لا يدري كم جعل له قال أبو عمر هذا كما قال مالك عند جمهور العلماء لأنه إذا قال له لك من كل دينار درهم أو نحو هذا ولا يدري كم مبلغ الدنانير من ثمن تلك السلعة فتلك أجرة مجهولة وجعل مجهول ومن جعل الإجارة بيعا من البيوع واعتل بأنها بيع منافع لم يجز فيها البدل المجهول كما لا يجيزه الجميع في بيوع الأعيان وهذا هو قول جمهور الفقهاء منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وذهب أهل الظاهر وطائفة من السلف إلى جواز المجهولات في الإجارات من البدل فأجازوا أن يعطي الرجل حماره لمن يستقي عليه الماء وينتقل ويعمل بنصف ما يهيىء الله له من الرزق وسعيه على ظهره وكذلك الحمام يعطيه لمن ينظر له فيه بجزء مما يحصل بيديه في كل يوم قياسا منه كل ذلك على القراض وكذلك الأرض يجيزون إجارتها ببعض ما يخرج منها وكذلك لفظ الزيتون بجزء مما يجمع منه في يومه وما أشبه هذا كله مما يطول ذكره واعتلوا بالقراض والمساقاة وبأن الله عز وجل أباح إجارة المرضع على علم بأن لبن الظئر وما يأخذ منه الصبي في اليوم والليلة مع اختلاف أحوال الصبيان في الرضاع واختلاف ألبان النساء كل ذلك اختلاف متباين وقد ورد القرآن بجواز ذلك والكلام في هذا الباب بين المختلفين يطول وفيما جئنا به منه كفاية إن شاء الله عز وجل‏.‏

1354- مالك عن بن شهاب أنه سأله عن الرجل يتكارى الدابة ثم يكريها بأكثر مما تكاراها به فقال لا بأس بذلك قال أبو عمر هذا موضع اختلف فيه الخلف والسلف فيمن أجاز ذلك فقال مالك قد ملك المكتري بالعقد منافع الأصل الذي اكترى فله التصرف فيه كيف شاء ويملك المكتري ثمن ما يقبض من ذلك ويتصرف فيه تصرف المالك بلا اختلاف في ذلك فكذلك المكتري والمستأجر لما يستأجره يتصرف فيه ويكريه بما شاء من زيادة أو نقصان قال الشافعي الإجارات صنف من البيوع يملك كل واحد منهما ما يجب له بالإجارة من غير منفعة في الدار والعبد والدابة إلى المدة التي اشترط ويكون أحق بها من ملك أصلها فهي كالعين المبيعة المقبوضة إذا قبض الأصل الذي تطرأ منه المنفعة ولو كان حكمها خالف العين كانت في حكم الدين فلم يجز أن يكترى بالدين لانه كان يكون حينئذ بدين وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدين بالدين قال أبو عمر‏.‏

وأما من كره أن يستأجر الرجل الدار أو الدابة ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به فإنه جعل ذلك من باب ربح ما لم يضمن لأن ضمان الأصل من المؤاجر صاحب الأصل لا من المستأجر قال أبو حنيفة وأصحابه من استأجر دارا أو دابة فليس له أن يؤاجرها حتى يقبضها وليس له بعد قبضه إياها أن يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به فإن فعل ذلك كانت الأجرة له وأمر أن يتصدق بفضلها عما استأجرها به وذكر عبد الرزاق قال سمعت الثوري يقول لمعمر ما كان بن سيرين يقول في رجل اكترى شيئا ثم ربح فيه فقال معمر أخبرني أيوب أنه سمع بن سيرين يسأل عن ذلك فقال كان إخواننا من الكوفيين يكرهونه قال‏.‏

وأخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسالم بن عبد الله وعروة بن الزبير قال كرهه منهم أثنان ورخص فيه اثنان قلت من قال لا أدري قال عبد الرزاق وسألت الثوري عنه فقال أخبرني عبيدة عن إبراهيم وحصين عن الشعبي ورجل عن مجاهد أنهم كانوا يكرهونه إلا أن يحدث فيه عملا قال أبو عمر مثل أن يبني في الدار أو الحانوت ما يزيده من أجرتها أو بحد القدوم أو بصقل السيف أو يصلح الإكاف أو نحو ذلك فيجوز له ما أراد به من الكراء فيه وهو قول أبي جعفر محمد بن علي وغيره وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن بن طاوس عن أبيه أنه سئل عن الرجل يستأجر الشيء فيؤاجره بأكثر فقال لا بأس به قال‏.‏

وأخبرني بن التيمي عن أبيه عن الحسن قال لا بأس به وكرهه بن سيرين وإبراهيم وشريح وحماد قال أبو عمر القول عندنا قول من أجازه قال بن شهاب العلة التي وصفنا وبالله التوفيق تم كتاب البيوع بحمد الله وعونه‏.‏

كتاب القراض

باب ما جاء في القراض

قال ابو عمر اما اهل الحجاز يسمونه القراض واهل العراق لا يقولون قراضا البتة وليس عندهم كتاب قراض وانما يقولون ‏(‏مضاربة‏)‏ وكتب مضاربة اخذوا ذلك من قوله تعالى ‏(‏ واذا ضربتم في الارض‏)‏ ‏[‏النساء 101‏]‏‏.‏ وقوله تعالى ‏(‏واخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله‏)‏ ‏[‏المزمل 20‏]‏‏.‏

وفي قول الصحابة بالمدينة لعمر في قصته مع ابنتيه ‏(‏لو جعلته قراضا‏)‏ ولم يقولوا مضاربة دليل على انها لغتهم وان ذلك هو المعروف عندهم والقراض ماخوذ من الاجماع الذي لا خلاف فيه عند احد من اهل العلم وكان في الجاهلية فاقره الرسول صلى الله عليه وسلم في الاسلام‏.‏

1355- مالك عن زيد بن اسلم عن ابيه انه قال خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على ابي موسى الاشعري وهو امير البصرة فرحب بهما وسهل ثم قال لو اقدر لكما على امر انفعكما به لفعلت ثم قال بلى ها هنا مال من مال الله اريد ان ابعث به إلى امير المؤمنين فاسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان راس المال إلى امير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب ان ياخذ منهم المال فلما قدما باعا فاربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال اكل الجيش اسلفه مثل ما اسلفكما قالا لا فقال عمر بن الخطاب ابنا أمير المؤمنين فاسلفكما اديا المال وربحه فاما عبد الله فسكت واما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا امير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال او هلك لضمناه فقال عمر ادياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا فقال عمر قد جعلته قراضا فاخذ عمر رأس المال ونصف ربحه واخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال قال ابو عمر هذا اجتهاد من عمر - رضي الله عنه - لانهما ابناه وحاباهما ابو موسى الاشعري بما اعطاهما فاجتهد للمسلمين في ذلك واحتاط عليهم كما فعل بعماله اذ شاطرهم اموالهم احتياطا لعامة المسلمين‏.‏

1356- مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن ابيه عن جده ان عثمان بن عفان اعطاه مالا قراضا يعمل فيه على ان الربح بينهما قال ابو عمر اصل هذا الباب اجماع العلماء على ان المضاربة سنة معمول بها مسنونة قائمة وروي عن عمر بن الخطاب وعائشة وبن مسعود وبن عمر انهم كانوا يقولون اتجروا في اموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وكانوا يضاربون باموال اليتامى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ‏(‏ابتغوا في اموال اليتامى لا تاكلها الزكاة‏)‏ وقال لا تذهبها الزكاة وهو حديث مرسل وروى عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‏(‏ ألا من ولي مال يتيم فليتجر له فيه ولا يتركه فتاكله الزكاة‏)‏ وهذه الاثار وما كان مثلها عما ذكرناه من الصحابة تدل على جواز القراض فيما ذكرنا من اجماع العلماء واتفاق الفقهاء - ائمه الفتوى - على جواز القراض حجة كافية شافية - ان شاء الله وبالله التوفيق‏.‏

باب ما يجوز في القراض

1357- قال مالك وجه القراض المعروف الجائز ان يأخذ الرجل المال من صاحبه على ان يعمل فيه ولا ضمان عليه ونفقة العامل في المال في سفره من طعامه وكسوته وما يصلحه بالمعروف بقدر المال اذا شخص في المال اذا كان المال يحمل ذلك فان كان مقيما في اهله فلا نفقة له من المال ولا كسوة قال ابو عمر اما قوله في وجه القراض الجائز المعروف ان يأخذ الرجل من الرجل المال على ان يعمل فيه ولا ضمان عليه ولا خلاف بين العلماء ان المقارض مؤتمن لا ضمان عليه فيما يتلفه من المال من غير جناية منه فيه ولا استهلاك له ولا تضييع هذه سبيل الامانة وسبيل الامناء وكذلك اجمعوا ان القراض لا يكون الا على جزء معلوم من الربح نصفا كان او اقل او اكثر ذكر عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن ابي حصين عن الشعبي عن علي - رضي الله عنه - قال في المضاربة الوضيعة على رب المال والربح على ما اصطلحوا عليه ورواه الثوري عن ابي حصين عن علي وروي ذلك عن قتادة وبن سيرين وابي قلابة وجابر بن زيد وجماعة ولا اعلم فيه خلافا الا ان يشترط رب المال على العامل الضمان فان اشترط ذلك عليه فقال مالك لا يجوز ذلك القراض ويرد إلى قراض مثله وقد روي عنه إلى اجرة مثله وهو قول الشافعي وقال ابو حنيفة واصحابه المقارضة جائزة والشرط باطل واما قوله ‏(‏ونفقة العامل من المال في سفره إلى اخر كلامه‏)‏ فان الفقهاء اختلفوا في ذلك فقال مالك وابو حنيفة واصحابهما ينفق العامل من المال اذا سافر ولا يكون حاضرا الا ان مالكا قال اذا كان المال كثيرا فحمل ذلك ونحو ذلك وقال الثوري ينفق ذاهبا ولا ينفق راجعا وقال الليث بن سعد يتغدى في المصر ولا يتعشى‏.‏

وقال الشافعي لا ينفق في سفره ولا في حضره الا باذن رب المال وقال اصحابه في المسالة ثلاثة اقوال احدهما هذا والآخر مثل قول مالك والاخر ينفق في المصر بقدر ما بين نفقة السفر والحضر وله في قرض نفقته قولان احدهما انه يقرض له النفقة والثاني لا يقرض له وينفق هو والمشهور عن الشافعي انه لا ينفق في الحضر وهو قول مالك وابي حنيفة والثوري وقال بن القاسم اذا كان للعامل في القراض اهل في البلد الذي يسافر إليه فلا نفقة له في ذهابه ولا رجوعه وقال اشهب له النفقة في ذهابه ورجوعه ولا نفقة له في مقامه عند اهله ولم يختلف قولهما انه لا نفقة له اذا كان مقيما في اهله وهو قول مالك وقال بن المواز قال لي عبد الله بن عبد الحكم في الذي ياخذ المال ببلده وهو يريد الخروج إلى بلد اخر في حاج ويريد بذلك المال قال احب الينا ان لا تكون له نفقة كالذي يكون بغير بلده فيتجهز يريد الرجوع إلى بلده فأعطاه رجل مالا قراضا فانه لا نفقة له فيه وانما النفقة للذي يخرج من أجل القراض خاصة وكالذي يخرج إلى الحج انه لا نفقة له قال بن المواز وروى بن القاسم عن مالك في التاجر له المال وياخذ مالا قراضا ويخرج في السفر انه لزم القراض حصته من نفقة العامل وقال قتادة النفقة في الربح والربح على ما اصطلحوا عليه والوضيعة في المال وقال بن سيرين ما انفق المضارب على نفسه فهو دين عليه وقال ابراهيم ياكل ويلبس بالمعروف وقال الحسن ياكل بالمعروف قال ابو عمر القياس عندي الا ياكل المقارض في سفر ولا حضر ولا على انه لا يجوز القراض على جزء مجهول من الربح وهو اذا اطلق له الانفاق لم تكن له حصته من الربح ولا حصة ربح المال معلومة وايضا فانه ربما اغترفت النفقة كثيرا من المال ولم يكن ربح ولما اجمع الجمهور انه لا ينفق في الحضر وهو يتعب في الشراء والبيع وينصب كان كذلك في السفر والله اعلم فقال مالك ولا باس بان يعين المتقارضان كل واحد منهما صاحبه على وجه المعروف اذا صح ذلك منهما قال ابو عمر هذا اذا كان على غير شرط في عقد القراض فان اشترطه فسد عند جميعهم والعمل الخفيف بغير شرط قال مالك لا يختلفون في انه لا باس به قال مالك ولا باس بان يشتري رب المال ممن قارضه بعض ما يشتري من السلع اذا كان ذلك صحيحا على غير شرط قال ابو عمر اختلفوا في ذلك ايضا فقال مالك في المضارب يبتاع من رب المال لا يعجبني لانها ان صحت من هذين اخاف الا تصح من غيرهما ممن يقارض وقال ابو حنيفة ذلك جائز‏.‏

وقال الشافعي اذا كان مما يتغابن الناس فيه فلا باس به والبيع منه كالشراء عندهم سواء قال مالك فيمن دفع إلى رجل والى غلام له مالا قراضا يعملان فيه جميعا ان ذلك جائز لا باس به لان الربح مال لغلامه لا يكون الربح للسيد حتى ينتزعه منه وهو بمنزلة غيره من كسبه وهذه أيضا اختلف فيها فقال مالك في الموطا ما ذكرنا وروى عنه بن القاسم وغيره ذلك المعنى‏.‏

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما اذا شرط للعامل ثلث الربح ولرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح على ان يعمل العبد معه كان ذلك جائزا فكان لرب المال الثلثان وللعامل الثلث قال أبو عمر هذا على أصلهما في العبد لا يملك شيئا وقول مالك على اصله في ان العبد يصح ملكه لما بيده من المال ما لم ينتزعه منه سيده وقد مضى القول في هذه المسالة في موضعها وقال الليث لا باس أن يشترط رب المال عمل عبده مع العامل في المال ولا يجوز له أن يشترط عمل عبد المضارب شهرا أو أقل أو أكثر كان له اجر مثله والقراض على حاله‏.‏

باب ما لا يجوز في القراض

1358- قال مالك اذا كان لرجل على رجل دين فساله ان يقره عنده قراضا ان ذلك يكره حتى يقبض ماله ثم يقارضه بعد او يمسك وانما ذلك مخافة ان يكون اعسر بماله فهو يريد ان يؤخر ذلك على ان يزيده فيه قال ابو عمر قد بين مالك العلة عنده في كراهة ما كره من القراض بدين على العامل وكذلك لا يجوز ان يقول الرجل للرجل اقبض مالي على زيد من الدين واعمل به قراضا وهو عنده قراض فاسد لانه ازداد عليه فيما كلفه من قبضه‏.‏

وقال الشافعي لا يجوز ان يقول لغريمه اعمل بمالي عليك من المال قراضا لان ما في الذمة لا يعود امانة حتى يقبض الدين ثم يصرفه على وجه الامانة ولا يبرا الغريم بما عليه الا بابرائه او القبض منه او الهبة له وقول أبي حنيفة في ذلك نحو قول الشافعي واختلفوا في ان عمل الذي عليه الدين بما عليه قراضا بعد اتفاقهم انه لا يصلح القراض في ذلك فقال الشافعي ما اشترى وباع فهو للعامل المديان له ربحه وخسارته وهو قول ابي حنيفة ومالك وبن القاسم ولصاحب الدين دينه على ما كان وقال ابو يوسف ومحمد ما اشترى وباع فهو للامر رب الدين وللغريم المضارب اجره وهو قول اشهب واصل ابي حنيفة وابي يوسف ومحمد في المدين يأمره رب الدين ان يشتري له فيه شيئا بعينه انه يبرا من دينه اذا اشتراه له وان امره ان يشتري له شيئا بغير عينه انه لا يبرا حتى يقبض الامر الشيء المشتري واجاز الشافعي والكوفي اذا قال له اقبض مالي على فلان واعمل به قراضا ان يكون له قراضا اذا قبضه لانه لم يجعل له قبض المال شرطا في المضاربة وانما وكله بقبضة فاذا حصل بيده كان مضاربة واختلف قول بن القاسم واشهب في الذي له الوديعة يقول للذي هي عنده اعمل به قراضا فكرهه بن القاسم ولم يجزه وكرهه اشهب واجازه اذا وقع وقال بن المواز لا باس به وهو قول سائر الفقهاء لانها امانة كلها قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فهلك بعضه قبل ان يعمل فيه ثم عمل فيه فربح فاراد ان يجعل راس المال بقية المال بعد الذي هلك منه قبل ان يعمل فيه قال مالك لا يقبل قوله ويجبر راس المال من ربحه ثم يقتسمان ما بقي بعد راس المال على شرطهما من القراض قال ابو عمر لم يقبل قوله فكذلك الزمه ان يجبر راس المال وهذا يدل على انه لو قبل قوله وصح ان بعض المال تلف قبل ان يشرع في العمل به لم يكن راس المال الا الذي بقي بعد الباقي وفي ‏(‏المدونة‏)‏ في الرجل العامل يخسر في المال ثم يجبر ربه فيصدقه ويقول له خذ ما بقي عندك مالا قراضا واستأنف العمل فيعمل على ذلك ويربح قال بن القاسم ليس قوله بشيء حتى يفاضله ويقبض منه ماله وينقطع القراض الاول بينهما ثم يرده إليه قراضا ثانيا والا فهو على القراض الاول ويجبر الخسارة من الربح قال وكذلك بلغني عن مالك وذكر بن حبيب قال اصحاب مالك كلهم على انه يلزمه ذلك القول ويكون راس المال ما ذكر وما رضي به من ذلك وروى عيسى بن دينار ان اشهب كان يقول الذي اسقط عنه ساقط والباقي هو راس المال قال عيسى وهو احب الي قال ابو عمر مسألة مالك في هذا الباب من ‏(‏الموطأ‏)‏ اولى بهذا الجواب وعليه جمهور الفقهاء وهو الصواب - ان شاء الله عز وجل قال مالك لا يصلح القراض الا في العين من الذهب او الورق ولا يكون في شيء من العروض والسلع قال ابو عمر اختلف الفقهاء في صفة المال الذي يجوز به القراض فقال مالك في ‏(‏ الموطأ‏)‏ ما ذكرناه وزاد في غيره ولا بالفلوس وقول مالك في ذلك كله كقول الليث والثوري والشافعي وابي حنيفة وقال بن ابي ليلى يجوز القراض بالعروض وقال اذا دفع إليه ثوبا على أن يبيعه فما كان من ربح فبينهما نصفين او اعطاه دارا بينهما ويؤاجرها على ان اجرها بينهما نصفين جاز والاجر والربح بينهما نصفين قال وهذا بمنزلة الارض المزارعة وقال محمد بن الحسن يجوز القراض بالفلوس كالنفقة بالدنانير والدراهم قال ابو عمر القراض بالمجهول يجوز عند جميعهم وكذلك لا يجوز عندهم ان يؤخذ الربح الا بعد حصور راس المال فلما كانت العروض تختلف قيامها واثمانها عاد القراض إلى جهل راس المال والى جهل الربح ايضا ففسد القراض على ذلك ولا يجوز عند جميعهم ان يقول بع عبدك الذي لك ان تبيعه به ثمنا لسعي هذه لان ذلك مجهول وجائز عندهم ان يقول اشتر لي بدراهمك هذه عبدا بعينه فكذلك جاز القراض بالعين ولم يجز بالعروض والله اعلم واختلفوا في القراض بنقد الذهب والفضة فروى اشهب عن مالك قال يجوز القراض بالنقد من الذهب والفضة لان الناس قد تقارضوا قبل ان يضرب الذهب والفضة قال بن القاسم سمعت ان مالكا يسهل في القراض بنقد الذهب والفضة ولا يجوز القراض بالمصوغ وقد روى عنه بن القاسم ايضا كراهية القراض بنقد الذهب والفضة ويجيزه في ‏(‏المدونة‏)‏ ‏(‏والعتبية‏)‏ وزاد في ‏(‏العتبية‏)‏ فان نزل ذلك لم يفسخ وبعد على شرط من الربح وقال الليث لا يجوز القراض بالنقد ولا يجوز الا ثمنا قبل الذهب والفضة وهو قول الشافعي والكوفي وروى يحيى عن بن القاسم ان كان ذلك في بلد يجيز فيه الذهب والفضة غير مضروبين فلا باس وان كان ذلك ببلد لا يجزئ ذلك فيه فهو مكروه واذا تفاضلا رد مثل وزن ذلك في طيبه ثم يقتسمان ما بقي واختلف بن القاسم واشهب في القراض بالفلوس فأجازه اشهب ولم يجزه بن القاسم قال لانها تحول إلى الفساد والكساد مسألة وقعت في هذا الباب من رواية يحيى في ‏(‏الموطا‏)‏ قال مالك ومن البيوع ما يجوز اذا تفاوت امره وتفاحش رده فاما الربا فانه لا يكون فيه الا الرد ابدا ولا يجوز منه قليل ولا كثير ولا يجوز فيه ما يجوز في غيره لان الله تبارك وتعالى قال في كتابه ‏(‏وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون‏)‏ ‏[‏البقرة 279‏]‏‏.‏

قال ابو عمر هذا قول صحيح في النظر وصحيح من جهة الاثر فمن قاده ولم يضطرب فيه فهو الخير الفقيه وما التوفيق الا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم‏.‏